الثلاثاء، 11 أبريل 2017

التعليم كما عايشته(30) أنا معلم

 ولا أعرف حقا لماذا أنا معلم مقال ؟
أنا مدرس و معلم و أستاذ و مربي .
و السيد الوزير و المستشار و النقابي و المفتش و المدير ...هاته الجوقة الطويلة لا  تعرف أنني معلم .
أنا معلم أولد   في اللحظة التي يلمع الفضول فيها عيون الصغير و في اللحظة التي يخرج فيها السؤال من فم الطفل ينابيع عطشى تفتش عن أرض ترويها ...

أنا معلم ...و هل تعرف الجوقة أنني مررت  من  أماكن لا تعد و لا تحصى و التقيت أصنافا كثيرة من الناس و البشر ..
أنا معلم ،و من فصيلة معرضة للنسيان و رغم أن سحنتي تمر عابرة أمام تلاميذي  إلا أن حروفي و دروسي تبقى حاظرة في أعمالهم و انجازاتهم..
أنا الذي يغتبط فرحا لزفاف طلابي السابقين ...و الذي يغتبط لحظة ولادة أطفالهم . و في آخر العمر يحدودب ظهري من الألم و الحزن و الارتباك من الذي ينتظرني ..لماذا كنت متهافتا و مسرعا لحفر قبري و أفدي  أجساد صغيرة ..  ؟
أنا الذي يطلب مني في كل ساعة و كل لحظة أن أتقمص أدوارا عديدة ،منها دور الأب و إلام ،الشرطي ،سائق سيارة أجرة ،المساعد الاجتماعي ،الفلاح ،الصانع ،الجندي ،الزبال ،الفقير ،الطبيب ،العاطل ...و المدافع عن الإيمان و العدل ...علي أن أتكلم باسم هؤلاء جميعا ..الخلاصة أنا ضابط الإيقاع الموسعي  لخطوات الطفل الأولى ...لكني أمر أمامهم لا مرئي و لا أحد يلتفت إلي إلا إذا رماني شزرا و  احتقرني و استصغر مهمتي في الحياة .
لنضع جانبا الخرائط و الرسومات البيانية و الأهداف و التوجيهات و وسائل الإيضاح  و الصيغ و الأفعال و الكتب ...أطفالي كانوا يتعلمون لوحدهم و من تلقاء أنفسهم و كنت فقط مصاحبا و مرافقا لهم ...لدي اعتقاد راسخ أن الله خلق ملكات التعلم للبشر الصغار  و ما علينا نحن البالغين اللذين نجهل الكثير و الكثير عن عالم الطفل ،سوى مرافقة الطفل و مصاحبته في تعلمه ...الذي يتأتى إلا إذا كانت الرغبة شخصية و تنبع من داخله و من أعماقه .الرغبة للتعليم لا توقظها أي نظرية أو منهاج ان لم تكن نابعة من الداخل .و رغم ما تدعيه الأدبيات التربوية التي لا تتوقف عن اتهام المواطن الصغير بالتكاسل و ضعف المر دودية و المستوى رغم أنها هي المتسببة في هذا التخريب المنهجي لذكاء الطفل و استيعابه للعلم ،فان التعلم يبقى أحسن متعة خلقها الله تعالى فوق هذه الأرض .أطفالي تعلموا وحدهم لاني أعطيت لهم فوق طبق: العالم كله ..و كانوا في حاجة لامتلاك العالم ليفصحوا  لي عن مكنونات صدورهم و يقولون لي من هم .
أنا التناقض الصارخ :أتكلم بصوت مرتفع  حاملا عبء تسمية هذا العالم للطفل و لا أمل من الإنصات للوصول إلى داخل الطفل و أكثر الهدايا التي تفرحني هم الأفراد المتقبلين لما أعطيهم و الملتهمون لكل ما طبخته يداي .
أنا الذي ما كانت الثروة المادية هدفي الأسمى ،رغم أنكم لا تعرفون أنني صائد الكنوز ...و من المفروض أن أكون غنيا . أنا صائد كنوز بدوام كامل و بسنة كاملة و بعمر كامل .هذا العمل أمارسه في انتظام أبدي :أنقب و أفتش عن فرص جديدة لتلاميذي الصغار لاستخدام مواهبهم و تطويرها .
انا قدر وضعه الله تعالى أمام من يعملون الآن و يتحملون مسؤولياتنا .
لدي وضع خاص في هذه الحياة .يسمح و يوكل  للطبيب بجلب حياة جديدة الى الدنيا أثناء الولادة في لحظة سحرية خارقة ،بينما انا مسموح و موكول لي أن أعتني بهذه الحياة و أتعهد برعايتها لكي تولد يوما بعد يوم مع أسئلة  جديدة و افكار و صداقات ...
موكول للوالدين " رعاية الأطفال "  بينما أنا موكول إلي "رعاية رعاية الاطفال" . أنا أتواجد و  أعمل مع الطفل أكثر بكثير مما يتواجد و يعمل معه والديه ،أتواصل معه ،أحتضن أفكاره و طموحاته و أحلامه .الواقع العملي و التعليمي يقول أن الطفل يقضي معي وقتا مضاعفا أضعاف ما يقضيه مع والديه اللذان يفضلان منصات التواصل الاجتماعي  و أفلام  و برامج القمامة على التواصل مع أطفالهم  .
أنا معلم خطير ...و إنما يخشى خطورة  المعلم من تلاميذه السفهاء .و أنا خطير أكثر مما يتصورون ،فالمهندس الذي يبني مدينته ،و لعشقه لمدينته سيشملها بكل أشكال الرعاية التي تستحق لكي تبقى صامدة لقرون عديدة ،أما أنا ،فأنا أدرك إنني إن بنيت مدينتي بالحب و الرعاية و الحقيقة ،مدينتي سنكون خالدة و ستدوم إلى الأبد .
أنا محارب يومي ،و معاركي مستمرة بشكل يومي ،لا تضع أوزارها و لا تتوقف :ضد ضغوطات المحيط ،و ضغوطات الإداريين و الزملاء و ضد السلبية و العدمية ،ضد الخوف و الجهل ،ضد الفكرة المتوحشة و الفكرة المخادعة و الفكرة الوحيدة  ،ضد اليقين المصطنع ، ضد التحيز و اللامبالاة
و لدي حلفاء كثيرون رغم أن بعضهم لم يلتحق بالمعركة بعد :الذكاء و الفضول ودعم المجتمع و الدولة و الوالدين ، و الابداع و التفرد و المحبة و الضحك و الإيمان و مباركة الرسول (ص) لكل من تعلم الناس على يده ...هؤلاء هم حلفائي و هم من يوفر لي الدعم اللامشروط لرفع الراية .
و لاني معلم سأشكر الله تعالى على هذه التجربة العميقة في حياتي ، على هذا المسار الحياتي الذي سطره لي :ما كنت غازيا أو مغتصبا .
و لأن لي ماض زاخر من الذكريات و المغامرات الإنسانية فاني سأستجمع ما تبقى لي من عمر في هذه الأرض لأستريح و  ما تبقى لي من أيام في المستقبل لأنام كل يوم مرتاح الضمير .
أنا مدرس و أشكر الله على ما أنا كل يوم .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق