الجمعة، 5 مايو 2017

التعليم كما عايشته (32) : رسالة من تلميذ إلى أستاذه

                                                                                                       رسالة من تلميذ إلى أستاذه
سيدي العزيز و أستاذي الكريم :
بعد الله تعالى أنت من تكلف بتشكيل روحي ،و أنت من نحت قلبي ،و أنت المميز في هذا المجتمع الذي رثى لحالي :صغر سني و ضعفي .أنت الذي أنحنى و بلا تكبر و لا عجرفة  و مد لي يده بلا شروط ليساعدني على النهوض في الحياة .

يواجهني معارفي و أهلي بمزيج من مشاعر التصغير و الاحتقار و الشفقة ... و ردود أفعال  مبهمة حينما لا أفهمهم و لا افهم ما هو المطلوب مني فعله .عكسك يا سيدي الكريم ،طاقاتك اللامتناهية من الصبر لا تتضايق أمام قصوري أو جهلي بل أن فرحي العفوي ينتزع الابتسامة و الإعجاب منك عكس الآخرون البالغون الذي يتبرمون مني ...أحس بتبرمهم و ضيقهم لكنهم لا يلاحظون ذلك .
في هذا المجتمع المبني على الحيازة الفردية و الاستئثار والملكية الفردية ،أنت الوحيد المغرد خارج السرب :الوحيد الذي يقتسم معي ذكائه بلا حدود و لا شروط ..و يسلمني مفاتيح أغلى و أعز كنوزه :ذكاءه، لأنك تدرك عكس الآخرين إني غر و قاصر ،و تحمل على عاتقك تعليمي المفيد و الصحيح و الجميل في كل لحظة من لحظات حياتي حينما تذهب بقية القوم  إلى أشغالها و أعمالها .تنكب أنت على القطع الصغيرة البشرية التي خلفوها وراءهم و تركوها في عهدتك لتتكلف بالرعاية و الحماية و التعليم .
و أنت الوحيد الذي يؤمن إيمانا راسخا أن التشارك و التقاسم في المعارف و المعلومات و المهارات يؤذي الى القضاء على الرق و العبودية ،يؤدي الى تداخل الطبقات و يعيد توزيعها توزيعا عادلا و مسؤولا .
كل ما يمكن من الكمال و الجمال هو تربية و أنت الوحيد فارس التربية الذي أورثهم أفلاطون حكمته . في مجتمع يجري بخطى حثيثة نحو المسخ الإنساني و ينحو بقوانينه  نحو جعل التربية حكرا على المدرسة الرسمية و نزع الأطفال من أحضان أمهاتهم و حرمانهم من التربية الطبيعية للأسرة ،أنت الوحيد من تبقى لنا لكي لا يمر الطوفان .
و أنا اجيئ إلى هذا العالم عالم البالغين المختلفين عني ، توصد في وجهي الأبواب ، يمنعونني من أحبو و أوضع في قماط من السلوك و الأفكار  لا لون له يشل حركاتي و يوقف نمو دماغي  ولربما سوف لن يغادرني هذا القماط حتى  القبر ،و هذا جد مؤسف  .تمر إنسانيتي في هذا العالم في عمر من الحرمان و اليأس و القنوط .
و أنا ادلف إلى عالم البالغين  الذي  ليس لي منه في الحقيقة أي امتياز إنساني يحترم إنسانيتي الامتياز الوحيد الذي يسهل تواجدي أو وجودي بينهم هو  أن أكون عند حسن ظنهم و يجب علي أطور قدرات الفهم و الاستيعاب سريعا قبل أن يساء فهمي و أتعرض إلى الإفشال و من بعده  التهميش ،كم عدد الأحزان و الآلام التي تنتظرني في الطريق ،و يجب علي أن أطور مهارات بهلوانية جسدية و عقلية لاجتياز الحواجز و الفخاخ المنصوبة من أجلي ؟ كم عدد السقطات و الخيبات التي سوف تعترضني و تلقي بضلالها علي طول حياتي ؟
في هذه البداية الصعبة أجدك أستاذي متفهما و شارحا و مقوما بلا كلل و لا ملل .أكان أبواي يفعلان ذلك مثلك ؟ و من في هذا المجتمع سهر علي مثلما فعلت أنت ؟
في بداية الطريق على درب الحياة المحدود ،فتحت عيني على عالم لا يصدق :كل شيء كان مدهشا و كل شيء كان جميل ، الله خلقني و خلق الحياة في تناسق بديع  خلقني الله متأملا لكل ما يدور حولي ومندهشا لغرابة ما أحسه و أراه ، يملأني الفضول و يدفعني لاستكشاف أي شيء أراه أو ألمسه ...لكن في الوقت الذي تبدأ طاقتي الإنسانية في الانفجار و النمو هناك من يتدخل و يفرض علي أن أبقى في مكاني جامدا سلبيا و يضع أمامي جميع الأجوبة  فيدخلني في ممر و يحشرني في المساحة التي يريد .و تستنزف طاقاتي و يهدر ذكائي الطبيعي ...لهذا اسقط و أسقط لأني أخضع لقانون جاذبتين :جاذبية الأرض و جاذبية البالغين هؤلاء  العمالقة الذين لا يفهمون لماذا نحن  أقزام صغار و لا يحاولون أن يفهموا لماذا لا نزال  في طريق النمو .
فمن غيرك أستاذي سيحنو علي بدون استعلاء و  سيمد لي يده ليساعدني على النهوض ؟ انت المتطوع الحقيقي و الوحيد .  
و أنت الوحيد الذي يتقبل تكرار أخطائي و لا يقصيني لجهلي و يعيد إلي الثقة إلى نفسي في عمل دءوب و طويل ،و يضع خطاي الطفولية العنيدة على سكة الحياة وسط البالغين مهما كانت الظروف و المعيقات ...يا لصبر أيوب .
أنت أعظم غواص غاص في بحري ،و تجول داخلي و سبك أغواري و رحم ضعفي و احترم صغري ، أنت الساحر الأول الذي جذبني  من يدي و تجول بي حول العالم في كل يوم .و وجه الشمس نحوي و جعلني امشي فوق الأرض شاعرا بعظمتها .أنت النجم الساطع الذي وهب لنا نعمة النور من عنده و ألقى أضواءه على الظلام و بدد الوصايا و النصائح السيئة و التماثيل المزيفة .تشعل الأضواء من كل الجهات لتنير لنا طريق المنحدر الخشن و تستهلك كل حياتك في سبيل هذه المعرفة الأبدية في سبيل التربية و التعليم القوة الهائلة التي تخدع الإنسان و لا تنتهي أبدا .
لك مني كل التقدير و الاحترام يا من أزهرت بستان حياتي و جعلت من تعليمك و تربيتك رائحة عطرة لوجودي .
أنا مدين لك يا سيدي ما أنا عليه الآن و ما سأكون عليه في المستقبل ،مدين لك بكثير من العرفان و الامتنان أيها السيد الذي جعلت النور يمر قريبا من عيوني و جعلت الفراشات تطير فوق شرفة حياتي ،جعلت عقلي يتنفس هواءه النقي و شجعت ذكائي مهما كان صغيرا و لو في حجم فستقه .أنت من غرس الخير في قلبي و أعطى الحقيقة و القوة و الاستقامة لأفعالي .
ساعدتني أمي على المجيء إلى هذه الحياة  ،لكنك أنت من تكفل بمساعدتي على فهم الحياة ،و قدمت لي المشورة و النصح و شرحت لي غموض نظام البالغين و معارفك النبيلة هي المنارة التي انتشلتني من عرض البحر وأمواجه العاتية .
باختصار يا سيدي أنت باقة من العواطف الدافئة و الصبر الكريم و المودة و الأمومة .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق