رسالة من تلميذ إلى أستاذه
سيدي العزيز و أستاذي الكريم :
بعد الله تعالى أنت من تكلف بتشكيل روحي ،و أنت من نحت قلبي ،و أنت المميز
في هذا المجتمع الذي رثى لحالي :صغر سني و ضعفي .أنت الذي أنحنى و بلا تكبر و لا
عجرفة و مد لي يده بلا شروط ليساعدني على
النهوض في الحياة .
يواجهني معارفي و أهلي بمزيج من مشاعر التصغير و الاحتقار و الشفقة ... و
ردود أفعال مبهمة حينما لا أفهمهم و لا
افهم ما هو المطلوب مني فعله .عكسك يا سيدي الكريم ،طاقاتك اللامتناهية من الصبر
لا تتضايق أمام قصوري أو جهلي بل أن فرحي العفوي ينتزع الابتسامة و الإعجاب منك
عكس الآخرون البالغون الذي يتبرمون مني ...أحس بتبرمهم و ضيقهم لكنهم لا يلاحظون
ذلك .
في هذا المجتمع المبني على الحيازة الفردية و الاستئثار والملكية الفردية
،أنت الوحيد المغرد خارج السرب :الوحيد الذي يقتسم معي ذكائه بلا حدود و لا شروط
..و يسلمني مفاتيح أغلى و أعز كنوزه :ذكاءه، لأنك تدرك عكس الآخرين إني غر و قاصر
،و تحمل على عاتقك تعليمي المفيد و الصحيح و الجميل في كل لحظة من لحظات حياتي
حينما تذهب بقية القوم إلى أشغالها و
أعمالها .تنكب أنت على القطع الصغيرة البشرية التي خلفوها وراءهم و تركوها في
عهدتك لتتكلف بالرعاية و الحماية و التعليم .
و أنت الوحيد الذي يؤمن إيمانا راسخا أن التشارك و التقاسم في المعارف و
المعلومات و المهارات يؤذي الى القضاء على الرق و العبودية ،يؤدي الى تداخل
الطبقات و يعيد توزيعها توزيعا عادلا و مسؤولا .
كل ما يمكن من الكمال و الجمال هو تربية و أنت الوحيد فارس التربية الذي أورثهم
أفلاطون حكمته . في مجتمع يجري بخطى حثيثة نحو المسخ الإنساني و ينحو
بقوانينه نحو جعل التربية حكرا على
المدرسة الرسمية و نزع الأطفال من أحضان أمهاتهم و حرمانهم من التربية الطبيعية للأسرة
،أنت الوحيد من تبقى لنا لكي لا يمر الطوفان .
و أنا اجيئ إلى هذا العالم عالم البالغين المختلفين عني ، توصد في وجهي الأبواب
، يمنعونني من أحبو و أوضع في قماط من السلوك و الأفكار لا لون له يشل حركاتي و يوقف نمو دماغي ولربما سوف لن يغادرني هذا القماط حتى القبر ،و هذا جد مؤسف .تمر إنسانيتي في هذا العالم في عمر من الحرمان
و اليأس و القنوط .
و أنا ادلف إلى عالم البالغين الذي
ليس لي منه في الحقيقة أي امتياز إنساني
يحترم إنسانيتي الامتياز الوحيد الذي يسهل تواجدي أو وجودي بينهم هو أن أكون عند حسن ظنهم و يجب علي أطور قدرات
الفهم و الاستيعاب سريعا قبل أن يساء فهمي و أتعرض إلى الإفشال و من بعده التهميش ،كم عدد الأحزان و الآلام التي تنتظرني
في الطريق ،و يجب علي أن أطور مهارات بهلوانية جسدية و عقلية لاجتياز الحواجز و
الفخاخ المنصوبة من أجلي ؟ كم عدد السقطات و الخيبات التي سوف تعترضني و تلقي
بضلالها علي طول حياتي ؟
في هذه البداية الصعبة أجدك أستاذي متفهما و شارحا و مقوما بلا كلل و لا
ملل .أكان أبواي يفعلان ذلك مثلك ؟ و من في هذا المجتمع سهر علي مثلما فعلت أنت ؟
في بداية الطريق على درب الحياة المحدود ،فتحت عيني على عالم لا يصدق :كل شيء
كان مدهشا و كل شيء كان جميل ، الله خلقني و خلق الحياة في تناسق بديع خلقني الله متأملا لكل ما يدور حولي ومندهشا
لغرابة ما أحسه و أراه ، يملأني الفضول و يدفعني لاستكشاف أي شيء أراه أو ألمسه
...لكن في الوقت الذي تبدأ طاقتي الإنسانية في الانفجار و النمو هناك من يتدخل و
يفرض علي أن أبقى في مكاني جامدا سلبيا و يضع أمامي جميع الأجوبة فيدخلني في ممر و يحشرني في المساحة التي يريد
.و تستنزف طاقاتي و يهدر ذكائي الطبيعي ...لهذا اسقط و أسقط لأني أخضع لقانون جاذبتين
:جاذبية الأرض و جاذبية البالغين هؤلاء العمالقة الذين لا يفهمون لماذا نحن أقزام صغار و لا يحاولون أن يفهموا لماذا لا
نزال في طريق النمو .
فمن غيرك أستاذي سيحنو علي بدون استعلاء و سيمد لي يده ليساعدني على النهوض ؟ انت المتطوع
الحقيقي و الوحيد .
و أنت الوحيد الذي يتقبل تكرار أخطائي و لا يقصيني لجهلي و يعيد إلي الثقة إلى
نفسي في عمل دءوب و طويل ،و يضع خطاي الطفولية العنيدة على سكة الحياة وسط
البالغين مهما كانت الظروف و المعيقات ...يا لصبر أيوب .
أنت أعظم غواص غاص في بحري ،و تجول داخلي و سبك أغواري و رحم ضعفي و احترم
صغري ، أنت الساحر الأول الذي جذبني من
يدي و تجول بي حول العالم في كل يوم .و وجه الشمس نحوي و جعلني امشي فوق الأرض
شاعرا بعظمتها .أنت النجم الساطع الذي وهب لنا نعمة النور من عنده و ألقى أضواءه
على الظلام و بدد الوصايا و النصائح السيئة و التماثيل المزيفة .تشعل الأضواء من
كل الجهات لتنير لنا طريق المنحدر الخشن و تستهلك كل حياتك في سبيل هذه المعرفة الأبدية
في سبيل التربية و التعليم القوة الهائلة التي تخدع الإنسان و لا تنتهي أبدا .
لك مني كل التقدير و الاحترام يا من أزهرت بستان حياتي و جعلت من تعليمك و
تربيتك رائحة عطرة لوجودي .
أنا مدين لك يا سيدي ما أنا عليه الآن و ما سأكون عليه في المستقبل ،مدين
لك بكثير من العرفان و الامتنان أيها السيد الذي جعلت النور يمر قريبا من عيوني و
جعلت الفراشات تطير فوق شرفة حياتي ،جعلت عقلي يتنفس هواءه النقي و شجعت ذكائي
مهما كان صغيرا و لو في حجم فستقه .أنت من غرس الخير في قلبي و أعطى الحقيقة و
القوة و الاستقامة لأفعالي .
ساعدتني أمي على المجيء إلى هذه الحياة
،لكنك أنت من تكفل بمساعدتي على فهم الحياة ،و قدمت لي المشورة و النصح و
شرحت لي غموض نظام البالغين و معارفك النبيلة هي المنارة التي انتشلتني من عرض البحر
وأمواجه العاتية .
باختصار يا سيدي أنت باقة من العواطف الدافئة و الصبر الكريم و المودة و
الأمومة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق