الصراع داخل المدرسة أو العنف ضد
المعلم
في الماضي كنا نأتي للمدرسة حاملين معنا هواجسنا التعليمية و الانسانية والعاطفية من أجل شرف الخدمة تحت
أقدام الجميع ، أصبحنا ألان نأتي و قلوبنا
يملأها الخوف و التوجس من تلاميذنا و آباءهم .
أصبحنا نعاين في السنين الأخيرة مستوى جرعات عالية من النزاع ، الذي حتما
لا يؤثر فقط على التعليم و التعلم و لكن على هيئة التدريس
أيضا .و هذا الصراع داخل المدرسة يصل إلى مستويات من العنف الحقيقي حتى يصبح
التحرش برجل التعليم مجرد شيء هامشي لا يستحق ذكره . هناك أيضا مستويات ظاهرة من
الصراع و التوتر و انعدام السيطرة تجعل من الأستاذ في موقف كارثي يستحيل فيه أن
يقدم درسا بطريقة جدية و حازمة . و بين الصفوف هناك تلك الصورة اليومية القاتمة التي تعاش يوميا : إثارة العنف اللفظي و النفسي
و حتى البدني بين التلاميذ مما يولد
اشمئزازا و قلقا شديدين ، من أساتذة
يعانون أصلا من التدمير المنهجي لمهنيتهم .
و قد أدى الغياب التام للسلطة التعليمية إلى جعل الفصول المدرسية صالات
مصغرة لمحطة الحافلات في بلدنا : تناول الحلوى ، الاستماع الى الموسيقى ، الدردشة
في مواقع التواصل ، عدم الاهتمام الظاهر بشرح الأستاذ ، الممانعة لأوامر و تعليمات
الأستاذ ، التأخر المتعمد و المتكرر ، الصياح و مخاطبة الزملاء بصوت عال ،
التعليقات البذيئة الغير مرئية بصوت عال ،
القيام من مكان الجلوس و التجوال بين
الصفوف بدون إذن الأستاذ ، الانخراط
الثنائي و الجماعي في حوار جدلي أو حوار بدني ...حالات جد شائعة في الوسط المدرسي تجعل
الأساتذة يشدون كل يوم على قلوبهم خوفا قبل الدخول إلى الفصل الدراسي .
الذين يتكلمون و يصدرون أحكاما قاسية في حق التعليم العمومي و المعلم هم مجموعة طويلة من الجمهور ، ليس لها اطلاع أو
معرفة حجم ما يحدث داخل
الفصول . و منهم فاعلون في التعليم
هم أناس لم تطأ أرجلهم مدرسة عمومية قط و لم ينتسبوا لما هو عمومي ...
هذا الجمهور كأنه لا يعيش بيننا . لا يستطيع ان يرى أن بعض الطلاب الحاليين لهم سلوكات منحرفة و جد خطيرة
خارج المدرسة ، وداخل المدرسة لا يتخلون عن طبيعتهم العنيفة ، يظهرون مستوى عال
من السلوكات العدوانية أمام أساتذتهم و
زملائهم دون أي مبرر .و لا يدرك الجمهور أن هذه السلوكات التخريبية لا تنفع معها لا التحذيرات الخفيفة و لا
استبدال استراتيجيات التعامل و لا حتى المجلس التأديبي ...و في هذا الوضع الكارثي
ليس هناك من سلاح أمام المعلم سوى التعامل مع الأمر الواقع الذي يفرض استعمال
استراتجيات من خارج الحقل التربوي على
سبيل المثال : عدم الالتفات و المهادنة و لو عن طريق الاسكات بالنقط ...
ليس هناك في متناولي إحصاءا للرخص
المرضية و لكني متيقن أن النسبة مرتفعة ...لست مختصا و لا طبيبا و لكني عايشت الإمراض
التي أصيب بها زملائي ...هناك أمراض جسدية و لكن غالبيتها ليست بعيدة عن القلق و
التوتر الناجمة عن النزاعات المدرسية و المهنية التي يضطر الأساتذة لمواجهتها بشكل
يومي ..و رغم أن النزاعات توصف بأنها مسائل عادية إلا أنها أصبحت خبزا يوميا أي تابثة و مزمنة . و العادي ان يتعرض الأستاذ يوميا للإذلال (من طرف الإدارات التعليمية و
التلاميذ و أوليائهم ) مما يدخل البعض في حالة طويلة من الاكتئاب خاصة ان كانوا من
الذين ضمائرهم صاحية .
الطبيب النفسي كارلوس كاستيا ديل بينو (2000)،و في مقابلة
نشرت في ملحق" صحيفة "ويكلي إل سور " يقول: لا توجد الآن مهنة تمنحنا المعاناة أكثر من مهنة أستاذ. الأساتذة
يصابون بمرض مرعب. وقد جعلهم الطلاب يفقدون سلطتهم، ومن المستحيل الحفاظ على النظام
في الفصول الدراسية. لم يعدوا يخافون من التهديد ، حتى الآباء والأمهات، في هذه الحالة،
تتحولوا هم أيضا ضد المعلم "
يوما بعد يوم تزداد حالات العدوان على المدرسين من طرف التلاميذ و أوليائهم
.و ليس هناك مسح أو رصد وطني لحالات العنف يمدنا بالإحصائيات ، ربما لأن الإحصاءات هي جزء من عواقب خصخصة التعليم حيث يعمل المعلم
دون حماية ودون شروط تتطلبها القواعد . و يبقى الأستاذ جد حذر و متوجس من أشكال
الاعتداءات التي يمكن أن يكون ضحية لها ، و حسب معايشتي لهذا الميدان فالأستاذ غالبا ما يدير ظهره أمام
"الاعتداء اللفظي " و من البديهي أن يحاول الدفاع عن نفسه أمام "الاعتداء الجسدي " في أحسن الظروف
تلقي الضربات و عدم الاجابة عنها . أما ما يخشاه الأستاذ هو " الاعتداء
الجماعي " فليس من امان له غير الهرب ...
و مع الأسف هذه البيئة الغير الآمنة لا تشجع المعلمين على القيام بواجبهم
على نحو فعال .
و حينما يكون الأستاذ ضحية العنف
الجسدي و اللفظي و الاهانة و لا يجد عدلا إلا
في عبارات التأسف التافه ، إن كان هناك
أسف . و قليلا ما يأخذ ضمانا بأن الشيء المريع الذي وقع له لن يتكرر في المستقبل .
و هذا العنف ليس إلا تعبيرا عن العنف الاجتماعي التي تولده الحكومات و الذي تسأل عنه الوزارة في برامجها و مناهجها و
تضييقاتها الخناق على كل ما هو تربوي
لحساب كل ما هو مدرسي جامد فارغ من القيم و الأخلاق .
و ما كان هذا ليحدث لو وجد هناك توقير و احترام للمدرسة العمومية. لقد
سمعنا مسؤولين بارزين و أطراف تستصغر و تحتقر التعليم العام بهذه المؤسسات و تتهمه
بأنه مستنزف لموارد مالية عمومية بدون
جدوى .. و سمعنا من يتهجم على اللغة العربية
التي يمكن أن نقول أنها بمثابة المرادف للتدريس في المدرسة العمومية المغربية ، كما أن هناك أطراف
كثيرة من المجتمع تحتقر التدريس كمهنة و
المدرس و تنسج حوله تلك الصورة الكاريكاتورية التي تسكن في اللاوعي الشعبي المريض
بالأكليشيهات و غالبا ما تحتقر فقره و تجعله مرادفا للبخل . و نسمع عن أفراد هنا و
هناك يعتبرون المدرسة العمومية مصدرا لكل الشرور ... و قد عانينا طوال العشرين سنة
الأخيرة الغارات الممنهجة على المدرسة العمومية ...
الجمهور مسكين لا تروقه المدرسة العمومية و لكنه يجهل الأسباب الحقيقية
التي أدت إلى هذا المقت . و يصعب عليه أن يستوعب أن الاتهامات المكالة لهذه
المدرسة لسبب بسيط هو فقرها و انعدام مواردها .
وسائل الإعلام الصفراء و السطحية جدا يروق لها تقديم المعلم كضحية لسبب
بسيط أنها تؤذي " وظيفتها المهنية
" للترويج لسياسة من يعطف عليها و يحتضنها و يدفع أكثر ... فهي و أن تناولت الحدث ستتناوله
فارغا من محتواه ،و لن تدفع بالحقيقة في اتجاه تحقيقات صحفية لكشف
ما وراء هاته الأحداث ... إنها تتستر على الفاعلين الحقيقيين من حكومات و أصحاب مشاريع.هؤلاء
لن تقدر على مجابهتهم أو تتجنب ذلك .
أليس هم من يدفعوننا لنعيش حياة بائسة ؟ حيث الأسر التي ترسل أولادها تعاني
من ارتفاع الأسعار و قلة العمل و حتى التي تعمل عليها أن تقضي ساعات طويلة في
العمل بعيدة عن أطفالها مما يتسبب في عدم الاستقرار العائلي. و تعاني الأمهات اللواتي
تعملن من عدم وجود أماكن آمنة لأطفالهن حينما يذهبن إلى العمل .و الأطفال القليلون
الذين يحظون بالمطعم المدرسي هم يعانون من الوجبات الرديئة ...و الاطفال الذين
امهاتهم عاملات يعانون من المجيء الى المدرسة بدون غداء .
و على الجانب الأخر يعاني المعلمون من طول ساعات التدريس و يعملون في شروط
لا إنسانية و لا صحية ، حيث يضطر الأستاذ إلى ترك صحته و عقله في القسم ... ظروف العمل في بعض الأحيان رهيبة
في أقسام جد مكتظة تثير أقسى درجات الانزعاج و القلق و جو مشحون مفتوح على
حالات حالات كثيرة من العنف و المواجهة
المفتوحة على كل الاحتمالات ...
و ليس هناك مساحات من الاجتماعات و الحوارات مع أولياء التلاميذ من أجل
تعاقد من شأنه أن يجعل من البيئة التعليمة بيئة آمنة تسودها الطاعة و الاحترام و
الامتثال للمعلم .و ليس هناك اجتماعات أو مؤتمرات دورية تجمع المعلمين و الفريق
التربوي بالأولياء لتذليل المشاكل و
الصعوبات .كما أن بنية المدرسة من حيث التوقيت والقوانين لا تساعد على اللقاء بين
الطرفين لتدارس المشاكل أو المطالبة بظروف أفضل للمدرسة العمومية . و يستحيل أن تجد لمدرسة مستشارين لعلم النفس
أو فريق إرشاد مدرسي. كما أن النقابات لا ترى في الاعتداء على الأستاذ اعتداءا يدخل في دائرة " المخاطر المهنية " المباشرة .
يجب تفعيل قرارات للحد ليس من الاعتداءات الجسدية على المعلمين من طرف التلاميذ
و أوليائهم بل وجب أيضا - وهذا جد مهم – الكف عن جميع أشكال العدوان الأخرى
:المضايقة ، إساءة المعاملة ، التهكم
، التهديد ، الضغط ، الترهيب ، التطاول
على اختصاصه الأستاذ و جعله عرضة للقلق .
يجب أن يعاقب كل من" يهين" المدرسين و المساعدين في المدرسة و كل
من أقدم على فعل "عنف بدني " و كل من
"أزعج " بأي شكل من الأشكال ممارسة الوظيفة التعليمية ...
اقتراح للمشرع : يجب تشديد
العقوبات و مضاعفتها على كل من يرتكب هاته
الاعتداءات أمام التلاميذ .
كما أن هاته الاقتراحات العقابية ليست في حد ذاتها حلا جذريا رغم الأهمية
القصوى لوجودها لدفع المكروه فانه مطلوب و بإلحاح القيام بعمل ثقافي قوي و إشعاع
جماهيري لإعادة الاحترام لأستاذ المدرسة العمومية .
لا شيء في العالم يبرر عدوانا ضد المعلم و المربي و لكن ليس علينا معاقبة
الصغار وحدهم ، و ليسوا هم المتسببين
وحدهم في العدوان على رجال التعليم .علينا
أيضا تحديد المقصرين و المسؤولين
الحقيقيين عن هذه الحالات و الإشارة لهم
بأصبع الاتهام .و على كل وزير تعليم أن يتوقف عن السياسة حينما تطأ رجلاه محراب التعليم .
علينا أن نتحد مع الأسر في البكاء :حياتنا و التعليم يستحقان أكثر من
أرباحكم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق