الجمعة، 29 ديسمبر 2017

التعليم كما عايشته (49) : رهيب ما يشعر به المعلم ..

  1.  التعليم كما عايشته (49) : رهيب ما يشعر به المعلم ..



اشعر بالملل العميق لكل ما وصلت له
.



أشعر بالضيق لان الناس لا يحترمون هاته المهنة .
أشعر بالخجل من نفسي لان رسالة المربي و المعلم و صانع الأجيال أصبحت مهنة جد عادية  .أصبحت   الوزارة تأخذ عمال مهن التربية و التعليم   كما يأخذ المقاول  العمال من "موقف العمل". مهنة لا تتطلب تكوينا و تتثقيفا موسوعيين، و يمكن للكل أن يمارسها ،مهنة لا أهمية اجتماعية لها ، مات الجيل الذي آمن بتوقير المعلم وكان  يغير طريقه كي لا يراه المعلم ، الآن هناك جيل يقترب من المعلم إلى حد التحرش و الخنق ،فالمعلم هو الذي يضطر إلى تغيير طريقه كي لا يراه التلميذ .
أشعر بالجزع  لان الكل يملأ فمه بالتعليم و حتى  القلة القليلة المهتمة  بحقل  التربية و التعليم لا تفعل شيئا لإيقاظ ضمائرها النائمة .
أشعر بالظلم الفاجرو الغبن  لان التلاميذ الذين مروا من فصولي ، ثم اختاروا مهنة التعليم مثلي هم الآن يحصلون على راتب يفوقني و في درجة عملت أنا أكثر من ثلاثين  سنة و لم أحصل عليها لهذا أصبحت ماركة مسجلة لدى التاريخ الوزاري و النقابي :ضحية النظامين الأساسيين 1985-2003  . و سيكتمل هذا الظلم بإضافة نظام التقاعد .
أشعر بالدونية  ،لان الراتب جد بائس مقارنة بما أبذله و يبذله غيري من عمال المجتمع و خدام الدولة . لا يعرفون معنى الإعداد و التخطيط  للتعلم  و لا يعرفون  مثلا كيف يمكن لك أن تضيع الكثير من الجهد البدني و العقلي لتجمع ألف حجة و حجة  في ورقة واحدة و تكثف العالم في جملة واحدة  و بلغة مبسطة ،و إن لم تفعل هذا ستنعت بالتقاعس في التعليم و خدمة الطفل  .
اشعر بالدهشة ممزوجة بالتوجس  من وضعي الهش  كمعلم للمدرسة العمومية لأن الذين يعتقدون انهم يخططون للتعليم ، هم فقط  يدربوننا على مهنة عمومية حتما ستنقضي و تختفي لتحل محلها مهنة خاصة   .مثل شخص يدربونه ليصير حارسا أمنيا و يفاجئ بعد انتهائه من التدريب و قد حلت آلة  كاميرا مكانه في العمل .
أشعر بغياب تام للأمان و الجرأة و الطمأنينة و الاندفاع للابداع في مهنتي  ،لان ما كان اختياري في الماضي أصبح إلزامي في الحاضر و ما كان هامش حرية أصبح متن تنفيد ،و ما كان موسعيا أصبح تخصصا فقيرا و مبهم . و هذا لا يعني إلا التقليص من حريات المربي و المعلم ، و لا أحتاج إلى نظرية فلسفية أو بيداغوجية تقنعني بجدوى و جودة التدريس في غياب حرية المدرس .
أشعر بالإحباط لان التعليم  افرغ من محتواه و أصبح ساحة سباق رهيب   للوصول إلى خط النهاية ... نهاية ماذا ؟ التعليم أصبح سلالم و درجات ترتفع إلى الأعلى غير عابئة بالطفل  ...و الطفل محتاج إلى معلم كسنبلة عامرة تطأطأ  رأسها ، محتاج إلى معلم يحنو إلى الأسفل  ليساعده على النهوض إلى الأعلى  . محتاج الى معلم يحب مهنته .
أشعر بالعجز لان  التعليم الموسوعي أصبح تخصصا فقيرا و مبرمجوه  محض اداريبن  ليس لديهم ميل إلى علم أصول التدريس .
أشعر بالحنق لان الإداريين في  التعليم ، من مديرين و مفتشين ومديريات و مراكز  يتكلمون عن التعليم و كأنهم يمارسونه داخل الأقسام كل يوم  و كل ساعة. و الحقيقة انهم غادروا الفصول لعدة سنوات و استطابوا حياة "الترف" . طبعا تضحيتهم محل تقدير ، لكن ان نظرت إلى سيرتهم البيلوغرافية ستجدها فارغة أو صفر .و لن تعدم لهم شهادات التقدير دولية و وطنية و جهوية  عن تداريب على طريقة الوجبات السريعة .
اشعر بالهلع ....لأنهم درسونا نظريات بيداغوجية يمكن أن تشرح لنا عدة أشياء و تعني عدة أفكار و معارف و لكن و لا واحدة متكيفة مع الواقع و تستجيب لحاجيات صاحب العرس : الطفل الصغير  .و مطلوب منا التسلح بها و الولوج إلى فصول تعدت أربعون  تلميذا كأننا ذاهبون إلى الحرب بلا سلاح .
أشعر بقلق رهيب من المستقبل . لدي عائلة  . و  مع  الارتفاع الرهيب  لكلفة الحياة ، لا أحد تساءل كيف يعيش المعلم و يوفر لأطفاله و أسرته الملبس و الكسرة و الدواء ...و لا  أحد التفت إلى الجزار الذي يتعشى لفتا .مفارقة  غريبة أن يعمل الفرد في التعليم و يعطي حياته  للتعليم و هذا لا يشفع له لكي توفر الدولة  لأولاده منحة و تدريسا عاليين .  رغم أن أطفال رجال التعليم نجباء و يمكن أن تستفيد منهم البلاد و العباد   .
أشعر بالزيف و النفاق ... لان الجميع يدعي أننا نحن المعلمين  مهمين و لكن لا أحد يقدر أن لنا أنبل مهنة في هذا العالم :التدريس .
أشعر بالغبن لأني أدرس مهنة  " رخيصة " ...حتى أنهم أطلقوا علي "كوعلم " رغم أهمية ما أقدمه للمجتمع ، و هذا التصور الجمعي هو ما ساهم سريعا في انحطاط مهنتي
أشعر بالغبن لان المجتمع الذي اشتغل لديه فقير جدا فكريا  ، و إيمانه قليل  برسالة المعلم  ...مجتمع تبهره الماديات و المظاهر و التوافه من الأشياء . مجتمعنا لا يحترم ذلك الصانع التقليدي الذي يصنع بلغة بل يحترم لابس البلغة و هناك من ينزلون الى الاسفل  فيحترمون حتى  الرجل (بكسر الراء)التي تلبس البلغة .
أشعر بالضيق ،لأني أعمل في حقل نراكم فيه مستويات قياسية من التوتر و القلق ، فلا علماء النفس  و لا الوزارة و لا المبرمجين و لا ممثلي الشعب و لا النقابيين  توقفوا و التفتوا الى حالة المعلم  ...و لا أحد صعد أعلى الشجرة و أذن في الناس للصلاة من أجل الرفق بنفسية - مربي أولادهم – المدمرة . فتغييراتهم المستمرة للقوانين التعليمية   و البرامج  سببت لدي قرحة  مستدامة ليس في بطني و إنما في تفكيري و ممارستي من الصعب الشفاء منها .
أشعر بالإحباط . و خائف من المستقبل  :تغييراتكم المتواترة في القوانين التعليمية و إصلاحات  الوجبات السريعة تفقدني مشروعية المعلم و المربي و تفقدني السيطرة في عملي و اختصاصي  .كما تولد لدي عدم اليقين بشأن وظيفتي التربوية .
أنا محبط لان لا أحد قدر تقديرا الساعات الطويلة التي اقضيها في الإعداد و الغير مؤذى عنها  . و لا أحد شاهد أعصابي تنفجر من الوقت المحدد المسموح به لنقل المعرفة و لا أحد يبالي كيف تتم عملية نقل هاته المعرفة إلى المواطن الصغير .و لا كيف أتضايق من التعامل مع تقويمات عقيمة و أنشطة لامنهجية .
أشعر بشيء غريب بصعب علي توصيفه  . ففي الوقت الذي أشعر فيه أنا كمعلم نقصا في الحماية العاطفية ،يطلب مني أن أكون كل شيء من مختص في أمراض علم النفس ألسريري و الاضطرابات... إلى الانحناء و ربط حذاء التلميذ كي لا يسقط و هو يمشي .
أشعر بالحيرة العميقة ممزوجة بالإحباط . يطلب مني أن اعلم و أدرب الطفل في مسار واضح ،و أن التزم بكل تعليمات المسار الذي يفترض أن يؤذي بالطفل إلى النمو و الخروج للمساهمة في المجتمع ...لكني حينما أضع الطفل في المسار ، أجده مسارا يفتقد إلى الإشارات الصحيحة للحياة و النمو و التربية .
أشعر بالغبن لعدم تقديرهم لما أقوم به .  هناك الكثير من الأغبياء و في كل الطبقات لا يعرفون مثلا معنى صعوبة  أن  تلتقط انتباه جميع تلاميذك ، فحتى من داخل الحقل التربوي لا ينتبهون إلى الصعوبة القصوى لهذه المهمة  في غياب الوسائل المزمن .
أشعر بالفراغ التربوي المهول أمام  إصلاحات تجانب الجدية و الصواب : في كل مرة يستقرون على إصلاح جديد أصبحت أحس كأنني آلة استهلكت و استنزفت و تخضع من جديد للتدوير و لا أحد التفت إلى شعوري بالقلق و الاكتئاب من عملية التحويل الممارسة علي .
أشعر بالقلق لأني و طفل صغير  نقضي ساعات طويلة في التدريس ...و لا أحد من واضعي البرامج تساءل في الصميم : لماذا يقضي الطفل الصغير ساعات طوال ملتصقا بمقاعد خشبية أكثر مما يقضيها طالب في الجامعة ؟  و لا أحد فيهم مختص بعلوم البيولوجيا ليحكم على الطفل الصغير بالبقاء هاته الساعات الطوال .و لا أحد استشار مختصون في بيولوجيا الطفل ...بالطبع لا تهمهم القدرات الجسدية و العقلية للطفل ...ما يهمهم تحقيق أهدافهم المعلنة و الخفية .
أشعر بالغم و النكد ،أليست وظيفتنا في الحياة هي تعزيز الإنسان و الإنسانية ؟ التحدث عن ما يشعر به   معلم يترك طعما مرا في الحلق .نظام غير عادل خطط له أن لا يترك للمعلم الوقت الكافي  للتفكير في كيفية تعليم أفضل .و إيجاد الكيفية التي يتعامل بها مع التنوع والتباين .نظام يتطلب منهم العمل حتى ساعة متأخرة من اليوم لتصحيح الواجبات و   التنقيب عن الوسائل و إعدادها .
أشعر بالخوف من هاته الساحة التعليمية التي تفرغ عاما بعد عام .و ما يخيفني أكثر هي هاته الانسحابات المتتالية من المعركة ضد الجهل .هناك المغادرون و المهاجرون بسبب فراغ المحفظة المالية في آخر الشهر .هناك من اقتنعوا و تشبعوا بالظروف الغير العادلة لهويتنا التربوية ،أغلقوا الى الابد دفتر مذكراتهم اليومية و انسحبوا على أطراف أصابعهم .و هناك من توقفوا عن الاعتقاد و الإيمان بوظيفتهم التربوية ،هؤلاء استقالوا و تقاعدوا عقليا و فكريا ، فماذا تبقى في الساحة ؟
أنا محبط من الإصلاحات التربوية المتواترة . و أتساءل   ، هل من السوي و الصواب أن نكتفي بالرياضيات و العلوم و اللغات لتعليم و تربية الطفل ؟ أليس مجانبا للصواب أن نحرمه من فرصة تعلم جمال و روعة التنوع في الحياة ؟ ألا ترون أن إصلاحات جودة التعليم تختزل في تقويمات فقيرة تحيلنا بدورها من أفراد إلى أرقام ؟
أنا محبط جدا .فمن يفتح كتاب إصلاحاتكم التربوية يشعر أن الدراسة في التعليم العمومي هو أكبر رعب يمكن أن يحصل للإنسان . لأنكم تضعون  المدرسة العمومية  في قفص الاتهام فكل الغارات الإصلاحية  كانت من أجلها .وجميع  التهم الموجهة إلى المدرسة العمومية بنيت على توجه واضح ليست لأنها مقصرة في عملها  بل لأنها فقيرة و تستنزف موارد مالية ،وجب التقليص من الانفاق عليها  .
أشعر بالقلق الشديد و الحزن حينما أرجع آخر النهار إلى المنزل في وضع كارثي من الإجهاد النفسي و البدني و لا أجد القليل من الاستطاعة و الطاقة لأدعم دروس أبنائي في المنزل ...فأتساءل عما كنت أفعله في المدرسة ؟
أشعر بالحيرة من هذا الارتجال السريع ، كيف يعقل من لا يمتلك مهنة المربي و المعلم أن تسمحوا له بالبقاء أطول وقت مما تبقون  مع أطفالكم ؟ ألا تعتقدون أن ذلك يؤذي إلى إفسادهم بطريقة جد ضارة ؟
أشعر بالإنهاك الفظيع  من محطات التعذيب التي مررت بها فقد تطور لدي و مثل زملاء عديدين أمراض نموذجية  : القرحة و الصداع النصفي و آلام التوتر هشاشة العظام  و أعراض صوتية مقلقة . حتى أصبحت أغالب طبيعتي الإنسانية للذهاب إلى المدرسة لأنني أتحمل كثيرا و فوق طاقتي ، وربما  أنا محظوظ لأنني لم أصل بعد إلى مرحلة رهاب المدرسة و الخوف من الذهاب إلى الفصول المدرسية كما وصا اليها بعض الزملاء .
أنا محبط و أجهل كيف سأكون ناقلا للمعرفة و متمكنا  من نقل المعلومات إلى الطفل ، في الوقت يعملون بشكل نشط  بواسطة الإصلاحات  لنزع من المعلم  سلطاته التربوية و التعليمية  و التثقيفية .و لا أعرف كيف أكرس مجهوداتي  لنقل هاته المعلومات حتى إلى التلاميذ الذين ليس لهم مشاكل تعليمية ، في وقت أصبح هناك فضول أقل و اهتمام أقل و حتى في المدرسة "ورد اقل " و تتحول الفصول إلى حلبات مناقشات و أعمال عدوانية .؟
أنا محتار و لا ادري كيف لا يرون أن المعلم المحترق يمكن ان يكون مشكلة خطيرة للأطفال الذين بدورهم يمكن أن يكونون عرضة للخطر .
آمل أن تقبلوا اعتذاري على هذا الغضب و الاحباط و الحيرة و الخوف ... و لكن من الضروري وضع حجة على الطاولة .
أقف احتراما و إجلالا لكل من رافق هذا المواطن الصغير على طول الطريق بلا ملل و لا كلل ، هم وحدهم من يعرف القيمة الثمينة للتعليم و هم وحدهم في هذا المجتمع اللاهث من يبدأ بقطع الألف ميل بخطوات صغيرة و صبورة بلا كلل و لا ملل .





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق